وقفات تدبرية




بسم الله الرحمن الرحيم

كيف نقرأ ونستمع لسورة البقرة ؟

سورة البقرة من عظائم سورة القرآن العظيم ويكفي أنها متضمنة لأعظم آية فيه ، والأحاديث والآثار في فضلها مستفيضة بل متواترة ، وكان في زمن الصحابة من قرأ سورة البقرة على طريقة السلف بالتدبر والامتثال يعدونه من الأحبار.  
وسورة البقرة من صعائب وشدائد سور القرآن فهي سورة ثقيلة متينة فيها المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ والحربي والسلمي ولذا ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه تعلمها في اثنتي عشرة سنة فلما ختمها نحرا جزورا . وكان ابن مسعود رضي الله عنه يسميها : سنام القرآن . إشارة إلى علوها وصعوبة الوصول إليها ، والآثار في هذا المعنى كثيرة ، ومع هذا يريد الواحد منا في زمن نقص العلم وضعف الآلة ان يتعلمها في أيام ويستكثر عليها حتى أشهرا معدودة .

ولفهم هذه السورة العظيمة ألخص أبرز ما ينبغي تعلمه منها :

فأولا : حزبها "موضعها المكاني من القرآن"
هي أول حزب السبع الطوال ــ من البقرة حتى التوبة باعتبار الأنفال والتوبة سورة واحدة ــ وهو ثاني أحزاب القرآن فضلا بعد المفصل ، وموضوع الحزب كله يدور حول ثلث الأحكام فالقرآن ثلاثة أثلاث : توحيد وأحكام وأخبار، وغالب هذه الأحكام تتعلق بحفظ الضرورات الخمس : الدين والنفس والعقل والعرض والمال ، وبحفظها يتحقق الاستخلاف بالأرض المذكور في مطلع سورة البقرة ، ولذا والعلم عند الله كان أول أمر في هذا الحزب بالتوحيد وهو أسّ الدين"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ" وأول نهي عن الشرك "فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا" [البقرة : 21،22] وآخر أمر هو بالقتال الغليظ الذي به يتحقق تمام حفظ الضرورات"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً" [التوبة : 123] .

ثانياً : متى نزلت "موضعها الزماني"
وهي مدنية باتفاق المفسرين ، بل حكى ابن حجر في الفتح الاتفاق على أنها أول سورة نزلت بالمدينة .
ومن هذين الموضعين الزماني والمكاني يتبين أن السورة نزلت في بدء قوة الدعوة وتكوين الدولة وتأسيس الشريعة الحاكمة الحافظة لضرورات الحياة ، وصاحب ذلك الاحتكاك ببني اسرائيل وباليهود بصفة أخص .

ثالثاً : مقصودها وسبب تسميتها
ومقصودها يُستدل عليه من اسمها : فهي في تعظيم أمر الوحي وبيان موقف الناس منه ومآل كل فريق ، فهي جاءت تحذر هذه الأمة المحمدية من سلوك جادة اليهود في موقفهم من أوامر ونواهي أنبيائهم كما جرى من أصحاب البقرة مع نبيهم موسى عليه السلام ، فهي سورة أوامر ونواهي قال ابن العربي في ( أحكام القرآن ) : سمعت بعض أشياخي يقول : فيها ألف أمر ، وألف نهي ، وألف حكم ، وألف خبر .
فلتحذر هذه الأمة في موقفها من هذه الأحكام طريق المغضوب عليهم ، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم إن فهمت أوامر ونواهي (البقرة) فامتثلت نجت ، وإن أعرضت لا تدري ماذا تقرأ ولا تستجيب لما تسمع فالعاقبة هي نفس عاقبة أصحاب البقرة (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة ..) .

رابعاً : فضائل السورة  
فضائل سورة البقرة كما في النصوص النبوية والآثار السلفية تدور على أمور ثلاثة :
1-    الوقاية والعلاج من أمراض الشياطين النفسية والعضوية بالسحر والعين ونحوها ففي صحيح مسلم "اقرؤوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة" وغيره من الأحاديث
2-    الشفاعة في الآخرة ففي صحيح مسلم أيضا " يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمهم سورة البقرة وآل عمران " . وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: " كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شَرْق، أو كأنهما فرْقَان من طير صَوَاف يُحَاجَّان عن صاحبهما " .
3-    سعة احاطتها بالأحكام وهذا جاء عن السلف كثيرا وهو ظاهر بأدنى تأمل ، وكان خالد بن معدان يسمي البقرة : فسطاط القرآن . أي مجمع أحكام القرآن كحال المدينة التي تجمع الناس ويُقال عنها فسطاط .
وهذه الفضائل تبين أن آيات السورة لها خصيصتان فهي : جامعة للأحكام حافظة للأرواح والأبدان .
ولما كان اليهود أكثر الأمم جحدا وإخفاء للأحكام واكثرها إضرارا وحسدا للناس في الأرواح والأجسام تكرر ذكرهم في سورة البقرة فاضحةً خبايا أحقادهم كاشفةً مكرهم وطرائق كيدهم محذرةً من سلوك طريقهم ببيان مآل أمرهم .
خامساً : أمثال سورة البقرة
فيها عشرة أمثال وهذا من فرائدها دون بقية السر، وفهم الأمثال من أصعب علوم القرآن ، وهذه الأمثال العشرة هي : خمسة أمثال وهي الأولى منها وتسمى : المثل الناري والمائي والحجري ومثل البعوضة ومثل الناعق ، وجميعها في موقف الناس من الوحي ، وأربعة منها في المال والنفقة وهي الآيات : 261 و 264 و265 و 275 ، وواحد في المنافق وهي الآية : 266 .
والبدء بالمثل الناري للوحي قبل المائي هو الأليق بطبيعة السورة التي من مطلعها جاء الخطاب قوياً حازماً متحدياً فجاء المثل مذكرا بما في الوحي من وعد ووعيد مشابهاً في ذلك طبيعة النار التي فيها الإضاءة والإحراق معاً .

سادساً : قصص سورة البقرة وهي تسع قصص على سبيل الإجمال
-        قصة استخلاف آدم عليه السلام في الأرض ، وقد عصى الأمر ثم أناب .
-        قصة موسى عليه السلام مع بني اسرائيل وفيها عدد من الوقائع وأبرزها قصة البقرة ، وقد تعنتوا في طاعة الأمر فقست قلوبهم .
-        قصة هاروت وماروت . وفيها مقابلة وحي الله بوحي الشيطان وهو السحر .  
-        قصة بناء ابراهيم عليه السلام للبيت العتيق . وفيها التسليم ببناء البيت في مكان قفر .
-        قصة تحويل القبلة . وعلاقتها بالتسليم للوحي ظاهرة جدا .
-        قصة طالوت وجالوت ، ولم يكن طالوت أهلا للملك في ظن يهود لكن هكذا جاء الوحي .
-        قصة ابراهيم عليه السلام والنمرود ، وهي في الاحتجاج للوحي على من أنكره .
-        قصة الذي مرّ على قرية ، وهي في تصديق خبر الوحي بالبعث .  
-        قصة ابراهيم عليه السلام واحياء الموتى ، وهي فيما يعرض للمؤمن من المثبتات على الوحي ليطمئن قلبه بها .

سابعاً : قواعد الأحكام الكبرى كلها مسطرة في سورة البقرة
 فأصول أحكام الصلاة والزكاة والصيام والحج والنكاح والطلاق والعدة والبيوع والتفقة والجهاد والحدود والوصايا والمداينة كلها مما جاء بيانها في آيات سورة البقرة .   
وهذه نماذج من ذلك :
-        الأصل في العادات الحل "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا" [البقرة : 29]
-        الابتعاد عن الألفاظ المحتملة إلى الألفاظ المحكمة واجب "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا" [البقرة : 104]
-        النسخ بمعناه عند السلف الذي يشمل التخصيص والتقييد والتفصييل هو من شرع الله" مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا"  [البقرة : 106]
-        قاعدة في التعامل مع أهل الكتاب "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" [البقرة : 120]
-        تحريم الحلال كتحليل الحرام " يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ " [البقرة : 168] أي في تحريم الحلال .
-        حكم الحاكم لا يحل الحرام " وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ"  [البقرة : 188]
-        الظلم محرم حتى في حق الكافر المقاتل "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا" [البقرة : 190] .
-        الحرج يرفع التكليف " لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا"  [البقرة : 233]
-        النسيان يرفع الإثم " رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا" [البقرة : 286]
وغيرها كثير جدا ،،

ثامناً : معقد السورة هو أن الإيمان رتبةً وتربيةً يكون قبل الأحكام
فالسورة بدأت بالإيمان (الذين يؤمنون ...) وختمت بالإيمان (آمن الرسول ...) وبينهما آلاف الأحكام الآمرة والناهية تتخلها آيات التوحيد وأعظمها آية الكرسي لتظهر الدلالة واضحة أن الإيمان يجب أن يكون أولا وآخرا ، وأن الانشغال بالأحكام عن الإيمان خطأ كبير وضلال عن هدي هذه السورة العظيمة التي هي رأس سور الأحكام .  
ومن خالف ذلك في تربيته لنفسه أو غيره فقد مهد لمعصية الأمر وركوب النهي لأن الوحي طرق على محل فاسد .
وختام السورة أيضا في التسليم للوحي وأن مآله إلى خير وفي خير وأن الشر كله في الاعتراض على الوحي المنزل بالأراء البشرية الكاسدة ، وهو مما يؤيد مقصد السورة الذي سبقت الإشارة إليه في أول المقال ، ويوضح ذلك ما ثبت في صحيح مسلم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة، قال : لما أنزل اللّه : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ } اشتد ذلك على أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بَرَكُوا على الركب، وقالوا : أى رسول الله ! كُلِّفْنَا من العمل ما نُطِيق : الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة؛ وقد نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ؟ قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) ، فلما قرأها القوم وذَلَّتْ بها ألسنتهم أنزل الله فى أثرها : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [ البقرة : 285 ] فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل اللّه : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قال : ( نعم ) ، { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } قال : ( نعم ) ، { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال : ( نعم ) ، { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [ البقرة : 286 ] ، قال : (نعم) .
فمطلع السورة وختماها في موقف الناس من الوحي ما بين : مصدق ومكذب ومنافق ، والعلم عند الله .
والناس في موقفهم من سورة البقرة على ثلاثة أصناف :
صنف قارئ لها متدبر لمعانيها ممتثل لوامرها فهذا أشبه الناس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
وصنف قارئ لها عارف بمعناها مخالف لأحكامها فهذا فيه شبه من اليهود المغضوب عليهم .
وصنف قارئ لها جاهل بمعانيها وأحكامها ففيه شبه من النصارى الضالين .

نسأل الله أن يجعلنا جميعا ممن هداهم إلى صراطه المستقيم وجنبهم طريق المغضوب عليهم والضالين ، آمين آمين .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ،،

كتبه / عصام بن صالح العويد
كلية أصول الدين بالرياض
ليلة الخميس الثاني من رمضان لعام 1434 هـ
وقفات مع ايات الصلاة



وقفة مع قوله تعالى (فذكر )




                                                 وقفةمع قوله تعالى (وسارعوا الى مغفرة من ربكم ) ال عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

كيف نقرأ سورة آل عمران ؟

عصام بن صالح العويد

آل عمران هي ـــ والعلم عند الله ــ سورة "عرفت فالزم" أو "الثبات على الأمر" ، وذلك أنه لما تتابعت الأوامر والنواهي وتجاوز عددها المئين في سورة البقرة حيث أبانت عن صراط المتقين وشيدت أركان وشروط وفروض ومتممات التقوى ؛ لم يكن بعد ذلك إلا الامتثال والثبات على هذا الصراط المستقيم ، ولذا تكرر الأمر فيها بالصبر والدعاء ـــ كما سيأتي بيانه بمشيئة الله ـــ ما لم يتكرر في سواها من سور القرآن العظيم .
وهي قرينة سورة البقرة في الكتاب والسنة ، وإحدى الزهراوين اللتين تحاجين عن صاحبهما الذي كان يعمل بهما في الدنيا ، وهي من السبع الطوال أفضل أحزاب القرآن بعد المفصل .

و آل عمران هم : عمران بن ماتان أبو مريم ، وآله وهم زوجه حنة وأختها زوجة زكرياء ، ومعهم زكرياء كافل مريم وكذا عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهم الصلاة والتسليم ، وهم مضرب مثل في الثبات على الأمر الحق مع قلة بل ندرة السالك وكثرة الصوارف . 

فعمران وزوجه كانا من العباد وكان عمران صاحب صلاة بني اسرائيل وزوجه حنة كانت من القانتين ، وهذا ظاهر من هذا النذر والابتهال العظيم {.. إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } [آل عمران: 33 - 36] .

وزكرياء عليه السلام كذلك ، وتأمل قوله تعالى فيه : {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ } [آل عمران: 39] وقوله : {... وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: 41] ، وزوج زكرياء لم تيأس مع طول الزمن بل أثبتت رجاءها بالله وطلبت من بعلها دعاء ربه مع عُقمِها وهرم زوجها .
ومريم وعيسى ويحيى عليهم السلام أمرهم في لزوم الأمر والثبات لا يخفى .

وأهل الأخبار لا يختلفون أن يحيى عليه السلام قُتل بسبب ثباته على الأمر ، إما كما يقول ابن كثير وغيره أن بعض ملوك ذلك الزمان بدمشق كان يريد أن يتزوج ببعض محارمه ، فنهاه يحيى عليه السلام عن ذلك، فبقي في نفس المرأة منه، فلما كان بينها وبين الملك ما يحب منها، استوهبت منه دم يحيى فوهبه لها، فبعثت إليه من قتله ،  أو لغير ذلك .

وقد استهلت السورة بعد طليعتها بالتحذير من الزيغ وهو أمرٌ بضده وهو الثبات على الحق { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)}
وكان أول دعاء فيها {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) } [آل عمران: 7 - 9] ، ولا يغب عن كريم نظرك التأمل في كلمة (لا تزغ) ، (لاريب فيه) في دلالتها على الثبات وعدم الشك .

والسورة من أكثر سور القرآن ذكرا للصبر وحثا عليه خصوصا ما جاء على زنة اسم الفاعل (صابر) ، وقد تكرر ذلك فيها "4" مرات ، وليس لذلك نظير في القرآن إلا في سورة البقرة فقط .
وحين ذكر سبحانه صفات المتقين بدأها بالصبر وهو سر الثبات {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَار} [آل عمران: 17] .
ولما ذكر قصة معركة أحد قال في أثنائها مرغبا بالصبر {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146] .
وختمت السورة بقوله {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [آل عمران: 186]
وختام ختامها قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] .

ومدار قصصها على قصتين عظيمتين :

1ــ مناظرة وفد نجران : قال ابن كثير في تفسيره (2/ 56) : وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد أن صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها نزلت في وفد نجران .
وقصة آل عمران جاءت تمهيدا لها لأن الموضوع الذي تعالجه أنها تواجه شبهات النصارى وبخاصة ما يتعلق منها بعيسى عليه السلام، وتدور حول عقيدة التوحيد الخالص كما جاء به الإسلام. وتصحح لهم ما أصاب عقائدهم من انحراف وخلط وتشويه. وتدعوهم إلى الحق الواحد الذي تضمنته كتبهم الصحيحة التي جاء القرآن بصدقها.
واستمر ختام هذه القصة وما يتبعها إلى الآية 120 عند قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا  .. } [آل عمران: 118 - 120]
فهذه في الشبهات الواردة من الخارج ، وهي على أنواع في السورة كما سيأتي بإذن الله .

2ــ معركة أحد : وجاء الحديث عنها في 60 آية من الآية "121 ـــ 180" والحديث هنا عن دواخل النفوس وما تتسبب فيه من الزيغ عن صراط الحق وعدم الثبات عليه .

وسائل التثبيت في السورة وهي ثمانية :

1ـــ استنطاق الفطرة التي فطر الله الناس عليها :
بدأت السورة بقوله تعالى { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) .. هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)} [آل عمران: 2 - 6]
فالحياة لابد لها من مُحيي يحييها وقائم يقوم على صلاحها ، ومن جادل في ذلك فما عليه إلا أن يصور هو من في الأرحام كما يشاء هو لا كما يشاء الله .
وهذا كله مدرك ببدهي العقل والفطرة .
ومن آيات التفكر قوله : {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [آل عمران: 26، 27] .
ومن آيات التفكر : {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] ، فالكون له سنن ونواميس من خرج عنها هلك كائنا من كان إلا بإذن يسير ثم يعود الأمر إلى سننه ، فمن وضع هذه السنن التي خضع لها كل جبار في السماء والأرض ؟!
وقد بدأت السورة وختمت بآيات التفكر .

2 ـــ الدعاء ، وهي أكثر سورة في القرآن تكرر فيها الدعاء :
وهو من أعظم وسائل الثبات ، ولذا افتتحت السورة بالدعاء واختتمت به وبين هذا وذاك دعاء كثير وفيها آية المباهلة وهي دعاء :
ففي أولها {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَاد} [آل عمران: 8، 9]
وفي وسطها : {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 35، 36] .
وفي ختامها : {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [آل عمران: 191 - 194]

3 ـــ الحجج والبراهين العقلية :
فقال سبحانه مجيبا عمن استنكر ولادة عيسى عليه السلام من غير أب {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [آل عمران: 59] ، فخلق آدم أعجب من خلق عيسى عليهما السلام ، فمن أقر بالأول فكيف ينكر الثاني ؟
وقال مبينا خطأ محضا من بني اسرائيل {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 65] ، والتوراة والإنجيل لم يأت فيهما ذكر شريعة ولا صحف ابراهيم كما هو معلوم عند الجميع ، والبون الزمني بينهما شاسع جدا ، فكيف تحاجون في شريعة ابراهيم وأن القرآن قد خالفها كما زعمتم وليس عندكم علم بها ؟

وفي طريقة التفكير العقلية المنطقية ، أنه إذا كان هناك قولان ظاهرهما التعارض ونحن نوقن أن المتكلم بهذا الكلام لا يمكن أن يتناقض ، فالعقل كل العقل أن نرد الملتبس المتشابه إلى المحكم والفصل من القول {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] .

ومن أساليب الجدال الظاهرة في السورة البدء بالمشترك بينك وبين المخالف تقريبا له وتحببا إليه لعله يستجيب :
ــــ {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 84]
ــــ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]

4 ـــ القوة في الجهر بالحق والاعتزاز به والتحدي في ذلك إلى أقصى درجات التحدي :
{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } [آل عمران: 61]
وتأمل قوة الخطاب {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 12] .

5 ـــ الوضوح والشفافية مع الأتباع دون الوعود الكاذبة أو التزويق الخادع :
فالسورة أبانت أن طريق الله فيه بلاء ومصائب ونكبات ولم ترض ما يفعله بعض الدعاة من فرش طريق الدعوة أمام المدعوين بالأماني الحالمة {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) ... وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } [آل عمران: 142 - 146]

وحين يقع الخطأ تكون المصارحة {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152] ، {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا .. } [آل عمران: 155] ، {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] .

6 ــــ ذكر قصص الثابتين والناكثين وجزاء الفريقين :
وقد مضت الإشارة إلى قصة آل عمران وقصة نبينا عليهم أفضل الصلاة والسلام مع وفد نجران ، وكذا قصة معركة أحد .

7 ـــ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] .

8 ـــ كثرة العبادة والمداومة عليها وبالأخص منها الصلاة :
{فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران: 39]
{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 42، 43]
وفي صحيح مسلم عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «العبادة في الهرج كهجرة إلي» والهرج زمن الفتن واختلاط الأمور بسبب كثرة الشبهات .

أسباب الزيغ وعدم الثبات التي حذرت منها السورة وهي خمسة :

1 ـــ الاستجابة للشبهات باتباع المتشابه وترك المحكم :
وهذا هو صدر هذه السورة العظيمة ، بل إن أعظم أسباب ضلال العالمين بعد الجحود والعناد هو اتباع المتشابه وترك المحكم ، فالنصارى استدلوا بولادة عيسى عليه السلام من غير أب على أنه ابن لله ، وهذا يرده صريح ومحكم العقل إذ لو كان كذلك لكان لكل إله إرادة خاصة به ولا بد ، فإن اختلفت هذه الإرادات كان النافذ منها واحدا قطعا ، فمن نفذت إرادته فهو الإله والثاني خاضع له .
وقد ضربت لذلك مثلا في حجاب المرأة المسلمة وما هو المحكم منه والمتشابه في كتابي "أسوار العفاف قبس من سورة النور" فانظره غير مأمور .

ومن كان مريدا للحق صدقا فعليه إن اختلف أهل العلم والتبست عليه المسالك بقول النبي صلى الله عليه وسلم "استفت قلبك" بشرط إرادة الحق ونزع الهوى من القلب .

2 ـــ الانغماس في الشهوات :
فهي من أكثر أسباب ضعف الانسان وزيغه وعدم ثبوت قدمه إذا غلبت عليه ، ولذا صدرت سورة آل عمران بقوله تعالى : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [آل عمران: 14، 15]

3ـــ المعاصي خصوصا الكبائر منها :
وهي تخون صاحبها أعظم ما يكون حاجة إلى من يثبته كما جرى في غزوة أحد { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152] ، {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } [آل عمران: 165]

وبالأخص الموبقات التي تثير العداوات بين الناس بسبب الظلم من الغني للفقير كالربا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 130، 131] .
فالربا بما فيه من ظلم من أعظم أسباب الخذلان والزيغ .

4 ـــ كثرة الاختلاف وعدم طاعة أهل الأمر :
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ... وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [آل عمران: 103 - 105]

5 ـــ التعلق بالأشخاص ورباط التمسك بالحق بوجودهم :
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]

وكان ختام هذه السورة العظيمة أن أمرت بأمرين :
1 ــــ التفكر :
أخرج ابن حبان في صحيحه عن ابن عُمَيْرٍ قال لعائشة رضي الله عنها : أَخْبِرِينَا بِأَعْجَبِ شَيْءٍ رَأَيْتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فَسَكَتَتْ ثُمَّ قَالَتْ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي قَالَ:
(يَا عَائِشَةُ ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي) قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجره قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ :
لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا :
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [آل عمران: 190 - الآيات] .

2 ــــ الصبر الذي هو رأس الإيمان والتقوى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]
فتدرجت الآية في أوامرها من الأدنى للأعلى ، ففعل الأمر(اصبروا) يدل على وجوب الصبر ، ولكن فعل الأمر (صابروا) أرفع منه لأنه يتضمن مصابرة الغير ممن يريد تنحيتك عن الطريق ، والرباط أرفع منهما لأنه أمر باليقظة للعدو حتى قبل مجيئه ، والتقوى أرفع منها جمعا إذ هي ثمرتها المقصودة منها .

فالتقوى هي الرابط بين أول البقرة و آخر آل عمران . 
جعلنا الله من المتقين ، وجعل سورة آل عمران حجة لنا لا علينا ، وشفعها فينا وفي والدينا وأحبابنا أجمعين ،،

كتبه / عصام بن صالح العويد  
دبي ـــــ  6 / 9 / 1433 





                                             وقفة مع قوله تعالى ( والذي أخرج المرعى)


                                             









هناك تعليق واحد:

  1. بارك الله فيك واتمني الحديث عن باقي سور القرآن

    ردحذف